فصل: تفسير الآية رقم (158):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (158):

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} يا محمد: {يا أيها الناس إَني رسولُ الله إليكم جميعًا}؛ الأحمر والأسود، والعرب والعجم، والإنس والجن، خص بهذه الدعوة العامة، وإنما بعثت الرسل إلى قومها خاصة. فادع الناس أيها الرسول إلى الله تعالى، {الذي له ملك السماوات والأرض} يتصرف فيهما كيفما شاء، {لا إله إِلا هو}؛ لأن من ملك العالم كان هو الإله لا غير، {يُحيي ويميت}؛ لعموم قدرته ونفوذ أمره، {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمي الذي يُؤمن بالله وكلماته} أي: ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل قبله من كتبه ووحيه. وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة، أي: ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل قبله من كتبه ووحيه. وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة، أي: لم يقل: فآمنوا بالله وآمنوا؛ لإجراء هذه الصفات عليه، الداعية إلى الإيمان به وأتباعه، ولذلك قال: {واتبعوه لعلكم تهتدون} إلى طريق الحق والرشد، جعل رجاء الاهتداء آثر الأمرين؛ تنبيهًا على أن من صدّقه، ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة. قاله البيضاوي.
الإشارة: لا غنى للمريد عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو بلغ ما بلغ، لقوله تعالى: {واتبعوه لعلكم تهتدون}، وغاية الاهتداء غير متناهية، لأن آدب العبودية مقرونٌ مع عظمة الربوبية، فكما أن الترقي في مشاهدة الربوبية لا نهاية له، كذلك أدب العبودية لا نهاية له، ولا تُعرف كيفية الأدب إلا بواسطة تعليمه عليه الصلاة والسلام، فواسطة النبي صلى الله عليه وسلم لا تفارق العبد، ولو عرف ما عرف، وبلغ ما بلغ. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (159):

{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن قوم موسى}، يعني بني إسرائيل، {أمةٌ} طائعة {يهدون} الناس بكلمة الحق، أو متلبسين {بالحق}؛ وهم الذين ثبتوا حين افتتن الناس بعباده العجل، والأحبار الذين تمسكوا بالتوراة من غير تحريف، أو الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، {وبه} أي: بالحق {يعدِلُون} في أحكامهم وقضاياهم. قال البيضاوي: أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن؛ تنبيهًا على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر. اهـ.
الإشارة: في كل أمة، وفي كل عصر، أمة صالحة، يُبَصِّرُونَ الناس بالحق، ويدعون إلى الله، فمنهم مَن يهدي إلى تزيين الظواهر بالشرائع، وهم العلماء الأتقياء، ومنهم من يَهدي إلى تنوير السرائر بالحقائق، وهم الصوفية الأولياء، المحققون بمعرفة الله. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (160):

{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)}
قلت: {أسباطًا}: بدل لا تمييز؛ لأن تمييز العدد يكون مفردًا، والتمييز محذوف، أي: فرقة أسباطًا. وقال الزمخشري: يصح تمييزًا؛ لأن كل قبيلة أسباطٌ لا سبط. اهـ. فكأنه قال: وقطعناهم اثنتي عشر سبطًا سبطا. والسبط في بني إسرائيل كالقبيلة عند العرب، و{أُممًا}: بدل بعد بدل على الأول، وعلى الثاني بدل من أسباط.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقطَّعناهم} أي: بني إسرائيل: فرقناهم {أثنتي عشر أسباطًا}؛ أثني عشر سبطًا، {أُممًا}: متميزة، كل سبط أمة مستقلة، {وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه} في التيه، {أن اضرب بعصاك الحجر فانبجَست}؛ انفجرت، إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار، أي: فضرب فانبجست، وحذفه للإيماء إلى أن موسى لم يتوقف في الامتثال، وأن ضربه لم يكن مؤثرًا يتوقف عليه الفعل ذاته، بل سبب عادي وحكمة جارية، والفعل إنما هو القدرة الإلهية، أي: نبعت {منه اثنتا عشرةَ عينًا قد علم كلُّ أُناس}؛ كل سبط {مشربهم وظلّلنا عليهم الغمام} لتقيهم من حرّ الشمس، {وأنزلنا عليهم المنَّ والسلوى}، وقلنا لهم: {كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} سبق في سورة البقرة، وكذلك الإشارة.

.تفسير الآيات (161- 162):

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكروا {إذ قيلَ} لبني إسرائيل: {اسكنوا هذه القرية}؛ بيت المقدس، {وكُلوا منها حيث شئتم وقولوا}: أمرنا {حِطةٌ وادخلوا الباب سُجّدًا} سجود أنحناء، {نغفر لكم خطيئاتِكم} التي سلفت، {سنزيد المحسنين}؛ وعد بالغفران والزيادة عليه، وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف، يعني: سنزيد، ولم يقل: وسنزيد؛ للدلالة على أنه تفضل محض، ليس في مقابلة ما أمروا به، {فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم}؛ قالوا: حبة في شعرة، مكان حطة، لأنهم حملوا الحطة؛ على الحنطة. {فأرسلنا عليهم رجزًا من السماء بما كانوا يظلمون} قد مر تفسيره، وإشارته، في سورة البقرة.
تنبيه: وقع اختلاف كثير في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين سورة البقرة، في {انفجرت} و{انبجست}، وقوله: {وإذ قلنا ادخلوا} و{إذا قيل لهم اسكنوا}، وقوله هنا: {وكُلُوا}، وهناك {فكُلُوا}. فقال الزمخشري: لا بأس باختلاف العبارتين، إذا لم يكن هناك تناقض. ووجّه بعضهم الفرق بأن ما في هذه السورة سيق في محل الغضب والعقاب على عبادة العجل، وما في سورة البقرة سيق في محل الامتنان، فلذلك عبَّر هنا بانبجست؛ لأنه أقل من انفجرت، وعبَّر هنا بقيل؛ مبنيًا للمجهول؛ تحقيرًا لهم أن يذكر نفسه لهم، وعبَّر هنا بالسكنى؛ لأنه أشق من الدخول ويستلزمه، وعبَّر هنا بالواو؛ لأن السكنى تجامع الأكل، بخلاف الدخول، فإن الأكل مسبب عنه، فعبَّر بالفاء، وزاد في البقرة الواو في: {سنزيد}، كأنه نعمة أخرى، بخلاف هذا، وزاد هنا {منهم}؛ لتقدم ذكرهم في قوله: {وإذ قيل لهم}، وعبّر هنا بالظلم؛ لأنه أعم من الفسق وغيره. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (163- 166):

{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}
قلت: {إذ يَعْدُون}: بدل من {القرية}، بدل اشتمال، أو منصوب بكانت، أو بحاضرة و{إذ تأتيهم}: منصوب بيعدون، و{سبتهم}: مصدر مضاف للفاعل، يقال: سبت اليهود سبتًا: إذا عظم يوم السبت وقطع شغله فيه، و{شُرَّعًا}: حال، ومعناه: ظاهرة قريبة منهم، يقال: شرع منه فلان إذا دنا منه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {واسألهم عن القرية} أي: اليهود، سؤال تقرير وتوبيخ على تقديم عصيانهم وعما هو من معلومهم، الذي لا يعلم إلا بتعليم أو وحي، وقد تحققوا أنك أُمي، فيكون ذلك معجزة وحجة عليهم، {عن القرية} أي: عن خبرها وما وقع لها، {التي كانت حاضرةَ البحر} قريبة منه، وهي أيلة، قرية بين مدين والطور، على شاطئ البحر، وقيل: مدين، وقيل: طبرية، {إذ يَعدُون في السّبِت}: يتجاوزون حدود الله بالاصطياد في يوم السبت، وكان حرامًا عليهم لاشتغالهم عنه بالعبادة، {إذ تأتيهم حيتانُهم يوم سبتهم شُرّعًا}: ظاهرة على وجه الماء، دانية منهم، {ويوم لا يَسبِتُون لا تأتيهم} بل تغوص كلها في البحر، {كذلك} أي: مثل هذا البلاء الشديد {نَبلوهم بما كانوا يفسقون} أي: بسبب فسقهم. وقيل: {كذلك}: متصل بما قبله، أي: لا تأتيهم مثل ذلك الإتيان الذي تأتيه يوم السبت.
ثم افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة عصت بالصيد يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلت القوم، وفرقة سكتت واعتزلت فلم تنه ولم تعص. {وإذ قالت أُمةٌ منهم}، وهي التي لم تنه ولم تعص. لَمَّا رأت مهاجرة الناهية وطغيان العاصية: {لِمَ تَعِظُون قومًا اللهُ مهلكهم} بالموت بصاعقة، {أو معذبهم عذابًا شديدًا} في الآخرة؟ {قالوا}: نهينا لهم {معذرة إلى ربكم} أي: عذرًا إلى الله تعالى، حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر، {ولعلهم يتقون} فينزجرون عن العصيان، إذ اليأس منهم لا يحصل إلا بالهلاك.
{فلما نَسُوا ما ذُكِّروا به} أي: تركوا ما وُعظوا به ترك الناسي، {أنجينا الذين ينهون عن السوءِ وأخذنا الذين ظلموا}؛ بالاعتياد ومخالفة أمر الله، {بعذابٍ بئيس}: شديد، من بؤس يبؤس بؤسًا، وقرئ (بيْئَسٍ) على وزن ضيغم، و(بِئْس) بالكسر والسكون، كحذر، وبيس بتخفيف الهمزة، ومعناها واحد، أي: بما عاقبناهم بالمسخ، {بما كانوا يفسقون} أي: بسبب فسقُهم.
قال ابن عباس: لا أدري ما فعل بالفرقة الساكتة؟ وقال عكرمة: لم تهلك؛ لأنها كرهت ما فعلوه. ورجع إليه ابن عباس وأعجبه، لأن كراهيتها تغيير المنكر في الجملة، مع قيام الفرقة الناهية به؛ لأنه فرص كفاية. قال تعالى: {فلما عتوا عما نُهوا عنه}؛ تكبرًا عن ترك ما نُهوا عنه، {قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} أذلاء صاغرين.
قال البيضاوي: {قلنا لهم كونوا}، وهو كقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذَّبهم أولاً بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك، فمسخهم قردة وخنازير، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرًا وتفصيلاً للأولى.
رُوِي أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين، كرهوا مساكنتهم، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يومًا ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين، فقالوا: إن لهم شأنًا، فدخلوا عليهم فإذا هم قردة، فلم يعرفوا أنسباءهم، ولكن القردة تعرفهم، فجعلت تأتي أنسباءهم وتشم ثيابهم، وتدور باكية حولهم، ثم ماتوا بعد ثلاثة أيام. اهـ.
الإشارة: المسخ على ثلاثة أقسام: مسخ الأشباح، ومسخ القلوب، ومسخ الأرواح، فمسخ الأشباح هو الذي وقع لبني إسرائيل، قيل: إنه مرفوع عن هذه الآمة، والصحيح: أنه يقع في آخر الزمان، ومسخ القلوب يكون بالانهماك في الذنوب، والإصرارعلى المعاصي، وعلامته: الفرح بتيسير العصيان، وعدم التأسف على ما فاته من الطاعة والإحسان، ومسخ الأرواح: الانهماك في الشهوات، والوقوف مع ظواهر الحسيات، أو تكثيف الحجاب، والوقوف مع العوائد والأسباب، دون مشاهدة رب الأرباب. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآية رقم (167):

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)}
قلت: {تأذن}: أعلم، وهي تفعل، وهي من الإيذان بمعنى الإعلام، كتوعّد وأوعد، أو: عزم، لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله، وأجرى مجرى القسم كعَلِم الله وشهد الله، ولذلك أجيب باللام القسمية.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكروا {إذ تأَذَّن ربُّك} أي: أعلم وأظهر ذلك في عالم الشهادة، {ليبعثنَّ} على بني إسرائيل، أيك ليسلطن {عليهم إلى يوم القيامة مَن يسومُهم سُوءَ العذابِ}؛ كالإذلال وضرب الجزية، وقد بعث الله عليهم بعد سليمان عليه السلام بُختنصر، فخرب ديارهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى نساءهم وذراريهم، وضرب الجزية على من بقي منهم، وكانوا يؤدونها إلى المجوس، حتى بعث الله نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ففعل بهم ما فعل، في بني قريظة والنضير وخبير، ثم ضرب الله عليهم الجزية إلى آخر الدهر، {إن ربك لسريع العقاب} فعاقبهم في الدنيا، {وإنه لغفور رحيم} لمن تاب وآمن، وإنما أكد هنا الخبر باللام دون ما في آخر الأنعام، لأن ما هنا في اليهود، وما في آخر الأنعام في المؤمنين، فأكد ما هنا باللام، فقال: {لسريع العقاب}؛ زيادة في توبيخهم ونكالهم.
الإشارة: مواطن الذل والهوان هو الانهماك في المخالفة والعدوان، وقد ينسحب ذلك في الذرية إلى آخر الزمان، فإن الله تعالى يقول: أنا الملك الودود، أعاقب الأحفاد بمعاصي الجدود، ومواطن العز والحرمة والأمان: هو الطاعة والتعظيم والإحسان، ينسحب ذلك على الأحفاد، إلى منتهى الزمان، فإن الله تعالى يحفظ الأولاد ببركة الأجداد. وقد تذاكر بعض التابعين ما يكون في آخر الزمان من الفتن والفساد، فقال بعضهم: يا ليتني كنت عقيمًا أو لم أتزوج، فقال له من هو أكبر منه: ألا أدلك على ما يحفظ الله عقبك؟ قال: نعم، دلني، قال: قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً...} [النِّساء: 9] الآية. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (168- 170):

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}
قلت: {أُمَمًا}: مفعول ثانٍ لقطَّعنا، أو حال، وجملة {منهم الصالحون}: صفة، وجملة {يأخذون}: حال من فاعل ورثوا، و{يقولون} عطف على {يأخذون}، أو حال، والفعل من {سيغفر}: مسند إلى الجار والمجرور، أو إلى مصدر {يأخذون}، و{أن لا يقولوا}: عطف بيان من {ميثاق الكتاب}، أو تفسير له، أو متعلق به، أي: لأن لا يقولوا، و{درسوا}: عطف على {ألم يُؤخذ} من حيث المعنى، أي: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ولم يدرسوا ما فيه، أو حال، أي: وقد درسوا، و{الذين يُمَسِّكُون}: مبتدأ، وجملة: {إنا لا نضيع أجر المصلحين}: خبر، والرابط: ما في المصلحين من العموم، فوضع موضع الضمير؛ تنبيهًا على أن الإصلاح كالمانع من التضييع، أو حذف العائد، أي: منهم، ويحتمل أن يكون عطفًا على {الذين يتقون} أي: خير للمتقين والذين يتمسكون بالكتاب.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقطَّعناهم} أي: فرقناهم {في الأرض أُممًا}: فرقًا، ففي كل بلد من البلدان فرقة منهم، فليس لهم إقليم يملكونه، تتمةً لإذلالهم، حتى لا تكون لهم شوكة قط، {منهم الصالحون} وهو من تمسك بدين التوراة، ولم يحرف، ولم يفرق، أو من آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في زمانه وبعده، {ومنهم دون ذلك} أي: ومنهم ناس دون ذلك، أي: منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم، {وبلوناهم} أي: اختبرناهم {بالحسنات والسيئات} أي: بالنعم والنقم، {لعلهم يرجعون}؛ ينتبهون فينزجرون عمًّا هُم عليه.
{فخلَفَ من بعدهم خلفٌ} أي: فخلف، من بعد الأولين، خلف، أي: بدل سوء، وهو مصدر نعت به، فالخلف، بالسكون، شائع في الشر، يقال: جعل الله منك خلفًا صالحًا. والمراد بالخلف في الآية: اليهود الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، {وَرِثوا الكتابَ}؛ التوراة، من أسلافهم، يقرؤونها ويقفون على ما فيها، {يأخذون عَرَضَ هذا الأدنى}؛ حطام هذا الشيء الحقير، من الدنو، أو من الدناءة، وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الأحكام، وعلى تحريف الكلام، {ويقولون سيُغفرُ لنا}؛ لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه، اغترارًا وحمقًا.
{وإن يأتهم عَرَضٌ مثلُه يأخذوه} أي: يرجون المغفرة، والحال أنهم مصرون على الذنب، عائدون إلى مثله، غير تائبين منه، {ألم يُؤخذْ عليهم ميثاقُ الكتاب} أي: في الكتاب، وهو التوراة، {أن لا يقولوا على الله إِلا الحق}، وهو تكذيب لهم في قولهم: {سيُغفر لنا}، والمراد: توبيخهم على القطع بالمغفرة مع عدم التوبة، والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب، {ودَرَسُوا ما فيه} أي: وقد درسوا ما فيه، وعلموا ما أُخذ عليهم فيه من المواثيق، ثم تجرأوا على الله، {والدارُ الآخرة خير للذين يتقون} مما يأخذ هؤلاء من العرض الفاني.
{أفلا يعقلون} فيعلموا ذلك، ولا يستبدلوا الأدنى الحقير المؤدي إلى العقاب بالنعيم الكبير المخلد في دار الثواب، ومن قرأ بالخطاب فهو لهم، من باب التلوين في الكلام.
{والذين يُمَسِّكُون بالكتاب} أي: يتمسكون بالتوراة، {وأقاموا الصلاة} المفروضة عليهم، {إنا لا نضيع أجر المصلحين} منهم. وهذا فيمن مات قبل ظهور الإسلام، أو: والذين يمسكون بالقرآن، {وأقاموا الصلاة} مع المسلمين، {إن لا نضيع أجر المصلحين}.
الإشارة: تفريق النسب في البلدان، إن كان في الذل والهوان، فهو من شؤم المخالفة والعصيان، وإن كان مع العز وحفظ الحرمة، فقد يكون لقصد الخير والبركة، أراد الله أن يُنمي تلك البلاد، بنقل ذلك إليها، كأولاد الصالحين والعلماء وأهل البيت. ويؤخذ من قبوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}، أن العبد مأمور بالرجوع إلى الله في السراء والضراء، في السراء بالحمد والشكر، وفي الضراء بالتسليم والصبر.
ويؤخذ من مفهوم قوله: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه}، أن من عقد التوبة وحل عقدة الإصرار غفر له ما مضى من الأوزار. وفي قوله: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب...} الآية، تحذير لعلماء السوء. وقوله: {والذين يُمسكون بالكتاب...} الآية، أي: والذين يمسكون بظاهر الكتاب وأقاموا صلاة الجوارح، {إنا لا نضيع أجر المصلحين} مع عامة أهل اليمين، والذين يمسكون بباطن الكتاب وأقاموا صلاة القلوب التي هي العكوف في الحضرة حضرة الغيوب إنا لا نضيع أجر المصلحين لقلوبهم، وهو شهود رب العالمين مع المقربين، في حضرة الأنبياء والمرسلين، جعلنا الله منهم وفي حزبهم، آمين.